أحاسيس ساخرة
من سخرية الأقدار أنه مع هدوء يوم ممتع لا يزال طعم متعته عالقا بأذهاننا، لا يمكن إلا أن تهب رياح عاصفة تحمل معها رنين هاتف على غير عادة، والأدهى أن يكون الهاتف الداعي لا يعلم بأنه قد أفسد روعة نشاط يوم مستمد من دفئ شمس أطلت بتطفل شديد بين غيمتين مرتحلتين في سماء أحد أيام الخريف المتقلبة.
ومن لطف هذا الهاتف الداعي أنه لم يستطع ادخار أنبائه إلى أن يسري النشاط في عروق جسد منتعش بصمت لا توصف لذته ولا تنسى مهما جار عليه الزمن، ومن كرمه الذي فاق الحدود الحاتمية أنه أعطى لدقائق الهدوء المعدودة رونقا مقارنة مع ساعات القلق والتردد بل وسنوات الشد العصبي التي تمت في عملية مقايضة مختلة غير عادلة.
ومن تفاهة العقل أنه صدق أن حياة على الأرض يمكن أن تكون جنة الخلد وأن كفاءته المعهودة بل التي أصبحت أسطورة تتناقلها الألسن سترفعه ملكا على أنوار عرش لن تخبو..
ومن سذاجته أن يتوق إلى كسر أغلال وحدة لطالما كانت معشوقته الفريدة والتي تيم بها منذ الأزل البعيد ليخونها ويبدلها بأبخس جولة على سحابات معتوهة لا تنقطع عن التنقل وهي حبلى بمطر غزير لا تكاد تفرغه من أحشائها حتى تنتحر تاركة خلفها وليدها شمسا دافئة ...لا تدفئ إلا الغير.
ومن تفكه الأقدار أن تكمن سعادة أسراب النوارس البيضاء في التحليق عاليا حول سفن تمخر عباب البحر مصدرة أصوات الفرحة والزهو احتفاء بانتصارها على الخضم الماكر،والنوارس تتملقها بإبداع مستجدية حصتها من تشييعها إلى ميناء الإرساء...
ومن سذاجة كلب القنص الأمين أن يحضر الصيد الثمين بين فكيه على أحسن حال طامعا في لمسة حنان من صاحبه الجائر.
ومن سخرية الأقدار أن لانتعلم إلا بعد أن يغرس الزمان مخالبه في أعناقنا ويمعن في جعله تذكارا محفورا بأحرف بارزة ومذهبة مبتدعة بأيدي الزمان البارعة حتى نعيه كلما تلمسنا تذكارنا العجيب ’’صنع بأيدينا ’’...
ومن تعاسة أنفسنا المكلومة أنها تصدق وبعد كل نكسة أن عبارة ’’صنع بأيدينا ’’ تلك ليست إلا وساما يجب توشيحها به للسعي وراء شهادة جديدة أكثر أهمية. بل وإنها تؤمن بأنها ظاهرة صحية تقتضي زراعة فيروس ما لزيادة المناعة المفتقدة والمقاومة الحقة التي نوصل إلى بر الأمان الذي طال ارتقابه.
ومن تفاهتنا أن نسعى جاهدين لدمارنا ودمار سفننا ونتركها محطمة وراءنا –وهي التي كانت تعيش بنا ونعيش بها على قسم وفاء أبدي- لنركب المجهول على أمواج تسارعت في جنون لبلوغ شاطئ حجري فتفجر طاقتها الغريبة على جلاميد صخرية لم تفلح كل عناصر الطبيعة المتظافرة منذ ملايين السنين على تكسيرها.
ومن روعة الجلاميد أن تحترم طريقة الأمواج في الانتحار البطولي وأن تبقى وفية لحضور هذا العرض المسرحي طوال بثه بل وتطيل التصفيق بحرارة وتوشحه بأوسمة خالدة على مر الزمان.بل ومن لطف الرمال الشاطئية أن تستوعب غضب الأمواج آلاف السنين باحتضانها بين ذراعيها وامتصاص اندفاعها حتى تهدئ من روعها في صورة طبيعية مؤثرة تدعو إلى ذرف دموع ساخنة تعبيرا عن الوداعة القصوى في صمت ساحر..
ومن جمالية الطبيعة أن تواظب جاهدة على تطبيق بنود قانون أزلي مجهري دون أخطاء على الرغم مما تقاسيه من جور الأيادي المتطفلة ومن استماتة هذا المقعد أن يحترم تفاهاتي في ركن ركين من غرفة شاحبة..
ومن وفاء المداد أن ينزف دما قاتما على حزني التائه بين غيمة من غيوم خريفية حالمة ببلوغ المرفأ، دامعة على خدود أرض حائرة تترنح بين فرح ارتواء عطشها ودمار منشآتها؛ ويتراقص على نغمات فرحي تحت ارتعاشة نسيم ربيعي منعش يحط رحاله على كل وردة يانعة باعثا أريجا يسافر في رحلة تتلقفه حرارة دافئة ممزوجة بنغمات سمفونية مجهولة المبدعين والعازفين؛ ويدرأ عني برودة وحدة موحشة وسط رفقة تتسلى بفنون مختلفة من فنون الحياة المبتدعة.. إبداع لا يتخيله العقل وتشارك فيه كل الظروف لتجعل منه رحلة مجهولة الوجهة ،مجهولة الأهداف مجهولة الرفقة... لكنها إجبارية
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية